أن اكتشاف فطرة فن دفينة لدى امرئ ما؛ وتنميتها ورعايتها، وإيجاد البيئة المناسبة لنمو هذه الفطرة؛ وتفتحها زهرة يافعة وفناً ناضجاً؛ ينعم الناس برؤيته، ويطربون لسماعه... لهو خيرٌ من تأسيس مدرسة فنية (تعلِّم) الفن وتجبر الأذواق على تقبُّله؛ ناضجاً كان أم فجَّا... ذلك أن أعظم قوة في العالم لا يمكن لها أن تفتِّح برعماً وتخلق وردة؛ قبل أن يحين الوقت المناسب لذلك... من هنا فإن الفن الراقي هو الذي ينبع من ذاتٍ فنيةٍ فطريةٍ أصيلة؛ نما فنها الفطري في بيئة تشجِّعُ أو تتحدى... لا ذاك الذي يأتي من شخصية دُفِعت أو دَفعت نفسها لتتدرب وتتعلم وتتمرس وتتقولب، ثم تظهر في مظهر فني دخيل... يزخر ماضينا الفني بكنوز تليدة عديدة... لو وجدت اليوم لبزَّت معظم المدارس الفنية الحديثة.. من هذه الكنوز ذلك الفنان الطريف نهاد قلعي الذي يكاد أن يُنسى... وهو يحمل الاسم الفني حسني البورظان... البورظان والطوشة حسني البورزان شخصية عاصرتها عدة أجيال عربية، وأعجبت بها جداً... ولعل السر في هذا هو تلك البساطة والطيبة التي تحملها شخصية حسني البورظان، تلك البساطة التي تجعله يقع دوماً فريسة سهلة في مقالب مستمرة يرسمها له صديقه غوار الطوشة (الفنان الكبير دريد لحام) في المسلسل القديم (مقالب غوار)... ولعل هذه الطيبة والبساطة هي ليست دوراً كان يمثله الفنان نهاد قلعي، بل إنها خصلة حقيقية في حياته الشخصية... يدل على ذلك أنه وقبل دخوله إلى عالم التمثيل وقع في المقلب الأول في حياته، فقد برزت موهبته باكراً، فقرر أن يسافر إلى مصر ليدرس التمثيل هناك؛ لكنه قبل سفره بأيام تعرض للمقلب الأول من الحياة بسرقة نقود سفره، ما أجبره على ترك السفر والعمل في دمشق. بدايات... والنصابين الثلاثة تنقل الفنان نهاد قلعي في عدة أمكنة فقد عمل في بداية حياته المهنية مراقباً في معمل للمعكرونة، ثم بعد ذلك كان ضارباً للآلة الكاتبة في الجامعة... ثم عمل في وزارة الدفاع، وبعد ذلك قدم استقالته، وعمل مساعداً لمخلص جمركي لمدة خمس سنوات إلى أن عمل لحسابه الخاص. كانت بدايته الفنية مضطربة، فقد انتسب إلى استديو البرق سنة 1946، وشارك بتقديم مسرحية (جيشنا السوري)... ثم تعرف على السيد سامي جانو فأسسا معاً (النادي الشرقي) في عام 1945. بعد ذلك التقى بالمخرج خلدون المالح؛ فأخذ يقدم أدواراً كوميدية في عدة مسرحيات، مثل: (لولا النساء)، ( ثمن الحرية)، وذلك على مسارح دمشق والقاهرة، ما جعله يحوز على إعجاب المسرحيين المصريين، الذين بدؤوا يعتبرونه نجماً صاعداً. في عام1960... وبعد أن تم إنشاء التلفزيون العربي السوري بدأت حياة نهاد قلعي الفنية تستقر، إذ بدأ بالعمل مع الفنان الكبير دريد لحام والفنان محمود جبر عبر مجموعة من البرامج مثل (سهرة دمشق) ثم (الأوبريت المسرحي) و(عقد اللولو)... بعد ذلك شارك الفنان نهاد قلعي في مسلسل (رابعة العدوية)، مع المخرج نزار شرابي... على أن البداية الحقيقية لظهور النجم نهاد قلعي كانت في شخصية حسني البورظان، وذلك من خلال المسلسل التلفزيوني ( حمام الهنا)، مع الفنانَين الكبيرين دريد لحام ورفيق السبيعي؛ حيث تكرست فيها شخصية حسني وغوار، ثم توالت بعد ذلك الأعمال التلفزيونية والسينمائية العديدة... مثل: غرام في استانبول - النصابين الثلاثة - الصعاليك - اللص الظريف ـــ خياط للسيدات- الصديقان... ومن أشهر المسلسلات قاطبة مسلسلا صح النوم ومقالب غوار. أتاحت هذه المسلسلات للفنان الكبير نهاد أن يدخل إلى كل بيت، وأن يعمل مع عدد من النجوم العرب الكبار مثل نجلاء فتحي وشادية... مسرح ... وغربة أما على صعيد المسرح فقد عهدت إليه وزارة الثقافة والإرشاد القومي مهمة تأسيس المسرح القومي وإدارته عام 1959، وقدم آنذاك الفنان قلعي عدة مسرحيات منها: مسرحية (المزيفون) عام 1960، ومسرحية البرجوازي النبيل، ومسرحية الفضائح. ولا ننسى مسرحياته الهامة، مثل: ضيعة تشرين - ومسرحية مسرح الشوك، ومسرحية (غربة) التي عُرضت على مسارح الوطن العربي وحازت إعجاب الملايين. وكانت مسرحية غربة آخر أعمال الفنان الراحل، إذ أصابه بعد ذلك مرض شديد اضطره لاعتزال العمل الفني والتحول نحو مسرحيات وقصص الأطفال... ثم توفي في السابع عشر من تشرين الأول عام 1993. براعة... وخطوات لم يكن الفنان الراحل نهاد قلعي فناناً عادياً... كان يحمل بذرة فن أصيل نشأت في بيئة أتاحت لها أن تنمو وتترعرع، فكان من ثمرة ذلك فنان عظيم؛ استطاع بجهده الذاتي وجهد بعض رفاقه أن يشيد الخطوات الأولى للفن في سورية، وذلك عن طريق إبداعه في مجالات الإخراج والتمثيل والكتابة، وبراعته في إدارة المؤسسات الفنية، فكان من الممهدين لنهضة التلفزيون والمسرح والسينما في سورية. واليوم؛ وعلى الرغم من التطور الهائل الذي شهدته وسائل الإعلام على الصعد كلها، إخراجاً وتمثيلاً وكتابة... فإن تلك الخطوات الأولى التي قام بها فنانون كبار مثل الفنان نهاد قلعي لا تزال هي الأساس في كل الإنتاجات المعاصرة. رحمك اللـه أيها الفنان العظيم.

الوطن