موسم واعد بالغلال ستشهده مدينة كسب الحدودية هذا الصيف. أشجار الدراق والكرز والتفاح والتوت توحي بالخير القادم على بلدة سياحية تحولت الى ساحة معارك منذ أشهر. العملية العسكرية الواسعة التي أعلن قادتها الميدانيون بدءها في ريف اللاذقية كاملاً، أتت ثمارها في البلدة الشهيرة التي خرجت عن سيطرة الدولة منذ ما لا يزيد على ثلاثة أشهر. تقلّب الطقس والغيوم التي غطت السماء مع بداية الصيف حالت دون تسريع إنجاز العملية، إلا أنّ ذلك لم يمنع قوات المشاة من التقدم إلى البلدة. «نحن الآن على بعد 50 متراً من برج السيرياتل»، عبارة وصلت إلى غرفة عمليات الجيش من أحد الضباط الميدانيين. وتكررت العبارة بتحديث جديد خلال دقائق: «إننا على مسافة 40 متراً من البرج». وتتابعت «تحديثات» الأخبار في مقر القيادة: «دخلنا الآن الطابق الأرضي للمبنى الذي تمركزوا فيه». برج السيرياتل هو العقدة التي حلّت قوة المسلحين في المعركة الصعبة، بحسب العسكريين. فبعد قمتي سلدرين وتشالما، كان لا بدّ من الوصول إلى البرج، كي يصبح جبل النسر تحت حصار مطبق، ويتأكد المسلحون حينها من استحالة استمرار المعارك مع الجيش. يمكن اليوم العبور في مواجهة جبل النسر الذي لم تمشطه وحدات الجيش بعد. الاختلاف يبدو واضحاً، إذ لا استهداف من أعلى الجبل لأي سيارة متجهة نحو كسب، ولا رصاص قنص يمنع نجاح العملية النوعية، كما كانت الحال سابقاً. يشير أحد الضباط إلى استسلام المسلحين بعد سقوط برج الاتصالات المذكور، إذ كانت الكلمة الفصل للمدفعية، فيقول: «اكتفوا برماية خفيفة، بل أقل من المعتاد على مرابضنا، في محاولة لتغطية انسحابهم تحت وطأة هجوم قواتنا على تجمعاتهم في النبعين». بعض الضباط استمعوا إلى نداءات المسلحين عبر اللاسلكي يطالبون بفتح المشافي التركية لاستقبال جرحاهم. يشمت الجنود برفض تركيا استقبال المسلحين الخائبين، والمتجهين إلى رفاقهم في الريف الشرقي. ويؤكد الجنود السوريون ملاحقتهم أينما كانوا. قوات للجيش من حمص شاركت في العملية أيضاً. يصف عناصرها مشاعر التأثر التي مرت عليهم خلال الليلتين الفائتَتين. إخراج جثامين بعض الشهداء أرخى بظلاله على احتفالات الفرح بتحرير البلدة الحزينة. يشرح أحد الجنود الأمر بقوله: «محاولة سابقة لاقتحام برج السيرياتل منذ 20 يوماً باءت بالفشل، إلا أن المشاركين في العملية رفضوا الانسحاب وقاتلوا حتى الرصاصة الأخيرة، ما أدى إلى استشهادهم جميعاً». ويضيف الجندي: «شهداء عناصر المجموعة المقاتلة جاؤوا من حمص للدفاع عن كسب. اليوم استطعنا إخراج جثامينهم بعد السيطرة على المنطقة. المشهد كان مهيباً ومحزناً». في ساحة كسب الرئيسية يقف عناصر الجيش محتفلين بانتهاء معركة كلّفت العديد من الشهداء والكثير من الخسائر. سوق البلدة التهمته حرائق الحرب. لا مجال للبحث عن صابون الغار الذي تميّزت به محالّ كسب التجارية. أحد الرجال الأرمن من المتطوعين في «الدفاع الوطني» ذكر لـ«الأخبار» أنّه عاد إلى منزله المحروق فور انسحاب المسلحين. ويؤكد أبو ناظو، «الميكانيكي» الشهير في الريف الشمالي، أنّه سيصلح منزله ويعاود عمله في البلدة السياحية بعد عودة السلام على يد الجيش. يمسك الرجل بيده أحد التماثيل الدينية المكسور، متسائلاً عن سر الحقد على كسب وأهلها. الدمار والحرائق التي تخيم على البلدة موقّعة باسم كتائب «أنصار الإسلام». جدران سوداء بكاملها وعليها شعارات «القاعدة»، وجمل تدلّ على محاولة «الغرباء» تغيير معالم المنطقة الجبلية الخضراء. الجنود المحتفلون بالحصول أخيراً على 4 ساعات نوم بعد أيام من السهر المتواصل، ما زالوا يناوبون على مرابض المدفعية لرصد واستهداف تحركات المسلحين الهاربين من كسب باتجاه جبل الكوز وربيعة، فيما تتحدث المعلومات عن استمرار العملية العسكرية في الريف الشرقي على جبهة قرى صلنفة وسلمى وربيعة. متاريس الجيش في مواجهة جبل النسر تبدو أكثر ارتفاعاً من المعتاد. تتناثر مخابئ الجنود وخيامهم خلفها. بعض المخابئ مسقوفة بالخشب تخفيفاً من أثر شظايا القذائف التي أمطرهم بها مسلحو المعارضة حين سيطروا على المواقع المواجهة. على المعبر... جدّة تضمد جراحكم على المعبر الحدودي تقف قوة من الشرطة السورية التابعة لوزارة الداخلية. «الجمهورية العربية السورية تشكر زيارتكم»، لافتة مكتوبة قبل الوصول إلى مبنى الهجرة والجوازات. داخل المبنى مشفى ميداني معظم المواد الطبية هي عبارة عن معونات وصلت إلى «المجاهدين» من مدينة جدة السعودية، حسب ما كتب على العلب. آثار الدماء على الأسرّة والضمادات ما زالت حديثة. على أحد الجدران كُتبت عبارة وداعية أُخرى يمكن رصد مثيل لها في معظم المناطق التي خرج منها المسلحون مهزومين: «سنعود يوماً». برأي جنود الجيش، إن المسلحين لن يعودوا أبداً، إلا أنهم ينظرون بعين الحذر إلى الخصم الواقف على الحدود المقابلة، الواقعة ضمن أراضي لواء إسكندرون المحتل من الدولة التركية. تمثال أتاتورك يبدو بوضوح تحت العلم التركي، ومن حوله مشهد هادئ لا يوحي بالعداوة التي تضاعفت خلال السنوات الثلاث الماضية. وعند الخروج من المعبر تلفت سيارة إسعاف تركية، تركها المسلحون على حالها ومضوا. السيارة مزودة بالأطعمة والمواد الطبية. نظرات التحدي تملأ عيون العسكريين والمدنيين على المعبر عند رؤية العلم التركي. ملامح «ضيعة ضايعة» الجديدة متاريس المسلحين على أسطح منازل قرية السمرا تلفت الأنظار. منزل «المختار» الشهير في مسلسل «ضيعة ضايعة» أصبح «خرابة». وداعة القرية وخير أرضها استحالا دماراً. ملابس وأغراض منزل «أسعد»، شخصية المسلسل «الساذجة»، تناثرت خارجاً، والتوقيع على أحد الجدران بقلم «عبودي الشيشاني مجاهد الجانودية». فرصة لاكتشاف ما لم يعرضه المسلسل المعروف من صخور بحرية مجاورة لمنازلها، حتى الوصول إلى شاطئ السمرا، حيث مخفر «أبو نادر»، الذي حرره الجيش من عناصر «جيش المجاهدين» الذين ملأوا جدرانه بكتاباتهم ومداخله بمتاريسهم، فيما يبقى التحام البحر والجبل دليلاً على عظمة الطبيعة الساحرة التي تلفظ الغرباء في النهاية. نهاية لم يتحدث عنها المسلسل الشهير إلا أنها أضحت حديث اللاذقيين أمس. |
||||||||
|