دخلت أفغانستان التاريخ مع انتباه القوى المتصارعة لجغرافيا هذه المنطقة وتوظيف قبائلها المحاربة في هذا الإطار، لا سيما مع صعود الغزنويّة قبل أن تطيح بها الموجات المغولية. ومن القوى المبكرة التي انتبهت لجغرافيا هذه الدولة، روسيا القيصرية وشركة الهند الشرقية، الذراع الاقتصادي لبريطانيا الاستعمارية الرأسمالية، والتي حاولت وضع يدها على أفغانستان وتحويلها إلى (جدار عازل) في مواجهة الروس، وكذلك الصين الصاعدة قبل أن تغرقها بريطانيا بحرب الأفيون، وكانت النتيجة هزائم مدوية للإنجليز ومذبحة لجنودهم في الممرات الجبلية والأودية السحيقة حتى تعفنت جثثهم، مما أعطى الحركة الوطنية الأفغانية والقبائل (السنية والشيعية) سمعة واسعة ضدّ الأطماع البريطانية. وستمضي عقود عدة قبل ان تترك التحوّلات المتسارعة في إيران وتركيا والهند تأثيراتها الكبيرة على الحركة السياسية الأفغانية، وكان القاسم المشترك بين كلّ هذه التحوّلات هو ما عبّرت عنه الأتاتوركية (مصطفى كمال أتاتورك) أكثر من غيرها فأصبحت الإصلاحات وبناء علاقات متوازنة بين روسيا والغرب سمة عامة لهذه الحركة، بل انّ حكم ظاهر شاه أرسى لعلاقات قوية جداً مع روسيا الاشتراكية، وتحوّل ابن عمه الأمير (السردار) داود الى واحد من أصدقاء موسكو الأقوياء في كابول، كما سمح للقوى والأحزاب الاشتراكية بالنشاط. وتمكنت أفغانستان بمساعدات دولية وخاصة من موسكو من تدشين بنية تحتية حديثة، وأطلقت حركة تعليمية وثقافية واسعة، كما ازدهرت الزراعة، ولم يعد الخشخاش الوسيلة الأساسية في الاقتصاد، غير انّ المخابرات الأميركية ومعها القوى الرجعية الباكستانية والعربية وتحت تأثير أكثر من عامل (خطوط الغاز، جغرافيا البافر ستيت الأفغانية) بدأت تدسّ أنفها في الشأن الأفغاني انطلاقاً من الحلقات الاجتماعية المحافظة التي لم يعجبها توسيع التعليم أمام الفتيات والانفتاح على ثقافات العالم وأجبرت حكومة السردار داود على التوسع في إقامة المدارس الدينية (طالبان) وتشبيكها مع مثيلاتها في الباكستان .كما راحت تعزز مراكز القوى الموالية للغرب وتضعف التيارات المقرّبة من الاتحاد السوفياتي . وبدلاً من أن يتمكن التحالف الموضوعي لقوى التقدم والإصلاح من تمتين علاقاته راح يتفسّخ تحت الضغط السياسي والمالي والإعلامي الأميركي – الرجعي، فانتهت الأحداث بموجات راديكالية متسرّعة أطاحت بالأمير (السردار) داود لمصلحة الجنرال حفيظ الله أمين (1979-1981). ايضاً، وبدلاً من أن تصبح هذه المرحلة بداية لعهد جديد، وجد الأفغان أنفسهم أمام تداعيات خطيرة ساعد فيها خوف التحالف الأميركي – الرجعي من تشكل أكبر محور آسيوي ضد المصالح الامبريالية في التاريخ فمن اندلاع الثورة الإيرانية ونجاح موسكو في تقريب وجهات النظر بين سورية (حافظ الأسد) والعراق (أحمد حسن البكر) وبوجود سلطة صديقة في الهند، تشكل محور يمتدّ من آسيا الوسطى الى البحر المتوسط، من شأنه أيضاً أن يبدّد كلّ ما بناه التحالف الأميركي – الرجعي – الصهيوني في «كامب ديفيد» ويمنع هذه الاتفاقية من التمدّد. في هذه الظروف والمناخات أصبحت أفغانستان جزءاً من صراعات دولية وإقليمية أوسع بكثير من صراعاتها الداخلية، منها العدوان الصهيوني على الجيش السوري والمقاومة في لبنان وتنحي البكر أو تنحيته وانهيار التعاون العراقي السوري، واندلاع الحرب العراقية – الإيرانية، وإغراق سورية بأعمال تخريبية على يد الجناح العسكري من الاخوان المسلمين. وكان ملاحظاً ولافتاً للنظر أنّ انطلاق هذه الأعمال ترافق مع حملة أصولية تكفيرية مسلحة في أفغانستان، تكسّرت موجاتها الأولى على يد الجيش الأفغاني الوطني، لكن الدعم الأميركي – الصهيوني – الباكستاني – الرجعي وتجنيد عشرات الآلاف من الأصوليين باسم الجهاد ضد الشيوعية، اضطر الاتحاد السوفياتي الى إرسال قوات الى أفغانستان بحكم اتفاقية التعاون العسكرية الموقعة من أيام العهد الملكي. ومن تداعيات هذه التطورات سلسلة من التغييرات داخل الحكم الأفغاني اليساري، فبعد الجنرال حفيظ الله، جاء بابراك كارمال، الذي استقال (بسبب السرطان) ثم محمد نجيب آخر رؤساء الجمهورية الوطنية التقدمية. وما يجدر الانتباه اليه هنا، هو انّ أفغانستان منذ سقوطها 1996 تحت حكم العملاء والأميركان من الرجعية الناعمة والخشنة، اي منذ ربع قرن تقريباً، وهي تعيش اسوأ أيامها، فقد دمّرت البنية التحتية بالكامل، وعادت الى زمن الأمية وفقدت النساء في مناطق واسعة الحق الأدنى من الحياة والتعليم وصار (الأفيون) السمة الأساسية في حياتها الاقتصادية وكان وجوده أقوى ما يكون في مناطق سيطرة الاصوليات التكفيرية، التي أعادت هذا البلد الى عصور الظلام بكل معنى الكلمة فيما تحوّلت المناطق التي تخضع لأصحاب البذلات وربطات العنق من مدّعي الليبرالية الى بؤرة غير مسبوقة للفساد وغسيل العملة. وبعد.. أما الدرس الآخر الذي يبدو أنّ أصواتاً محسوبة على بقايا غورباتشوف والمتنفذين اليهود في الإعلام الروسي تقف خلفه، فهو محاولة دفع البعض في موسكو لإعادة أوهام (محمد نجيب الله) في سورية هذه المرة، ولمن لا يذكر أو لا يعرف فإنّ آخر الرؤساء الوطنيين لأفغانستان، وهو الدكتور محمد نجيب الله، الذي صنعته رواسب الانهيار السوفياتي بديلاً عن الرئيس الشجاع، بابراك كارمال، بالغ في أوهام التعديلات الدستورية بمقتضى اتفاق روسي – أميركي، وفي أوهام جذب جزء منه المعارضة بدمج جزء منها في إصلاحات (حقيقية) وصلت حدّ تشكيل حكومة محايدة برئاسة مير حسن الذي كان مفضلاً أكثر من نجيب الله . فماذا كانت النتيجة، المزيد من الهجمات والاعتداءات على الجيش، والمزيد من دعم المخابرات الاميركية والباكستانية والنفطية للجماعات الإرهابية الأصولية التكفيرية، ومنها تزويدهم بصواريخ ستينغر وبلو باين ضدّ الطائرات، وبصواريخ ساغر ضدّ الدروع، وغيرها من المعدات الحديثة وتسهيلات واسعة لاستقدام مجاهدي المخابرات الأميركية عبر المطارات والموانئ والحدود المعروفة؛ وليس هذا الدرس وحده برسم كل مناهضي السياسات الاميركية الرجعية، فثمة ما يستحق الوقفة في قول شهير لبنوبارت (الجنرال الذي يقف في منتصف الطريق يحفر قبره بنفسه) ونتذكر على سبيل المثال كيف انتهت (وقفة المراجعة) التي أعلنها السادات خلال حرب تشرين، سواء كانت مشبوهة أو غير ذلك، فقد أعقبها تحويل العدو قواته الى الجبهة السورية وثغرة الدفرسوار على الجبهة المصرية. لا يعني ذلك أنّ سورية ليست بحاجة الى المراجعة النقدية الدائمة والانفتاح على الحوار، بل والتفاهمات والتسويات، لكنها تدرك أكثر من ايّ طرف ولا تحتاج لمن يعلمها كيف تقوم بكلّ ذلك، ويدها على الزناد، ومن دون أن تسمح لأيّ كان بخلخلة الصفوف لحظة الاشتباك السياسي – الاقتصادي كما العسكري . أيضاً، وبالرغم من كلّ ما يُقال حول (أجواء جديدة لموسكو) فإنّ بوتين الذي بعث الروح في روسيا الأوراسية، غير رموز العصابات التي أسقطت الاتحاد السوفياتي (غورباتشوف ويلتسين والمافيا اليهودية ومن وراءهما)، ويتذكّر جيداً درس نجيب الله الذي لم يسقط وحده، بل سقطت معه أفغانستان الوطنية وعمّق الأزمة الروسية في الداخل والخارج. |
||||||||
|