نبيل الملاح – باحث ووزير سابق
منذ ما يزيد على العشرين عاماً وأنا أكتب عن الفساد وضرورة التصدي له قبل أن يستفحل ويصبح واقعاً يصعب، وقد يستحيل، القضاء عليه أو الحد منه، وفي ذلك الوقت كان الفاسدون والمفسدون يعملون في الظلام وفي الغرف المغلقة بعيداً من الأضواء ودون إعلان وإشهار؛ لكن التراخي في التصدي لهم أدى إلى تمادي البعض في فسادهم وانتشارهم في كل مؤسسات الدولة ليصل إلى القضاء وأجهزة الرقابة والتفتيش..
وكنت قد أكدت أن الفساد سرطان سريع الانتشار في حال عدم بتره في بدايته، واقترحت إعادة النظر بأنظمة أجهزة الرقابة والتفتيش وهياكلها وربطها بالسلطة التشريعية، وإحداث هيئة عليا لمكافحة الفساد ترتبط بالسيد رئيس الجمهورية؛ على أن يتم اختيار القائمين عليها من رجال الدولة المشهود لهم بالعلم والخبرة والنزاهة والجرأة.
لقد انتشر الفساد بتسارع وتغلغل في العديد من أجهزة الدولة ومؤسساتها، وأصبح الفاسدون يعملون دون خوف أو خجل غير آبهين بحساب أو عقاب وكأنهم مطمئنون إلى أنه لن يكون هناك حساب ولا عقاب، وبالطبع فإن هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب الذي وعد به رب العالمين.
ولقد أصبحت مظاهر حياة هؤلاء الفاسدين والمفسدين من ترف وبذخ تدعو إلى الاستغراب والاستهجان؛ فهم وأولادهم يركبون السيارات الفخمة والفارهة رغم ما تعانيه سورية من ضيق مالي وعجوزات كبيرة بسبب تراجع مواردها بشكل كبير والحصار المفروض عليها، ويرتادون المطاعم والمقاهي يومياً ويدفعون فواتيرها الخيالية دون مراجعة أو تدقيق. كل ذلك يتم في الوقت الذي يعيش فيه معظم الشعب السوري بمستوى «يلامس خط الفقر؛ حيث إن الدخل أقل بكثير من تكاليف المعيشة التي أصبحت تتناسب طرداً مع سعر صرف الدولار بسبب جشع المستوردين وتجار الجملة وتلاعبهم بالأسعار، ولا يخفى أن معظم هؤلاء يتهربون من دفع الضرائب الواجبة عليهم عن الأرباح الكبيرة التي يحققونها على حساب حياة الناس ومعيشتهم.
وهنا أسأل: هل يتعذر على الدولة محاسبة هؤلاء الفاسدين والمفسدين الكبار؟! ألا تكفي مظاهر حياتهم وحياة أولادهم لمساءلتهم وإدانتهم دون الحاجة لإجراءات وقضايا قد تستغرق سنوات ويحصلون في نهايتها على البراءة؟!
وبالطبع على الدولة التركيز على محاسبة الفاسدين الكبار، وعدم زج من تورط معهم بتنفيذ بعض الأعمال غير المشروعة لأسباب معيشية واضطرارهم لتأمين فرصة عمل ودخل إضافي، وهؤلاء حكمهم حكم الموظف الذي يحصل على إكرامية من مراجع دون ابتزاز ودون مخالفة النظام والقانون.
إن محاربة الفساد تتطلب وضع رؤية إستراتيجية واضحة ودقيقة يتم من خلالها ملاحقة الفاسدين والمفسدين الكبار في المرحلة الأولى، ومن ثم ملاحقة بقية الفاسدين على مراحل وفقاً للمعالجات الاقتصادية والمالية التي يجب على الدولة القيام بها لتحسين الأوضاع المعيشية من خلال زيادة موارد الخزينة ومنع هدر المال العام وتوفير البيئة المناسبة للإنتاج والاستثمار واستعادة الأموال المنهوبة والمهربة إلى خارج القطر والتي أعتقد أن حجمها قد يغطي احتياجات إعادة البناء في مرحلته الأولى.
فالعدالة تقتضي التفريق بين الفاسدين والمفسدين الكبار والذين امتهنوا الفساد وأمعنوا في أساليبه وبين الذين تورطوا به لحساب هؤلاء الفاسدين والمفسدين بسبب الضغوط المعيشية، وعلينا أن نتذكر قرار الخليفة عمر بن الخطاب بوقف حد قطع يد السارق في السنوات العجاف، وهو المعروف بالحزم والعدل.
إننا اليوم أمام منعطف خطير؛ فإما أن نتجاهل واقعنا المؤلم ولا نتعامل معه بجدية وبحس عال من المسؤولية الوطنية والتاريخية، وإما أن نتصدى لتحديات هذا الواقع بعقلانية وموضوعية ونعبر إلى شاطئ الأمان لبناء سورية المستقبل مواجهين المؤامرات والمخططات التي تهدف لتحطيم سورية أرضاً وشعباً وتاريخاً.
فإما الفساد، وإما الدولة، وبالتأكيد فإن خيارنا جميعاً هو الدولة.
الوطن