تصاعد الخطاب العنصري في لبنان، ضد الغريب، الغريب الضعيف فقط. والمستهدف المباشر منه هم اللاجئون السوريون والفلسطينيون حتى الآن، نمو هذا الخطاب يفتح على مرحلة جديدة في تاريخ لبنان، وصورة لبنان وهويته، وهذا ليس من باب المبالغة، بل رصد انطلاق تحولات بدأت تظهر أعراضها. إذا كان الجدل حول فرص العمل، وعدم تحمل الدولة اللبنانية أعباء اللجوء بالنسبة للسوري، خاصة أن اجزاء واسعة من سوريا أصبحت أمنه، فهذا منطق لا اعتراض عليه، إلا من زاوية استعمال خطاب الكراهية وتعميمه على وسائل الإعلام المحلية، بدلا من العمل وفق قوانين واضحة تنظم هذا الوجود وتعمل على إعادة اللاجئ إلى وطنه. أما بالنسبة للفلسطيني فالرأي حوله هو رفض التوطين، وهو راي مدعوم من الفلسطيني نفسه، من خلال إجماع رسمي وشعبي فلسطيني على حق العودة. والاعتراض هنا هو من زاوية حرمان الفلسطيني من العيش بكرامته وسحب كل حقوق الحياة منه. لكن لماذا يتصاعد هذا الخطاب في لبنان؟ وهل هو منحصر بقضية متعلقة بضغط اللجوء. نعتقد أن لغة الخطاب تجاه ما يطلق عليهم “الغرباء” في لبنان المقصود هنا هو السوري والفلسطيني وهذا الوصف أي” الغرباء” هو الغريب بحد ذاته، ولكننا نعيش في زمن أغبر على أية حال. هذا الخطاب هو عرض لتحولات داخلية سياسية واجتماعية عميقه في بنية لبنان، ومستقبل هويته. وهي ترتبط بعودة تيار اليمين المتطرف، أو ما كان يطلق عليه بالانعزالية السياسية للعب الدور القديم من حيث الوزن السياسي في بنية الدولة والمجتمع. وباتت مساحة تمدد هذا التيار وتعميم فكره العقائدي القائم على الاحقية في لبنان عن غيره من اللبنانيين الاخرين، بالاستناد إلى خلفية تاريخية لا مجال للخوض بها وهي معروفة بكل الأحوال وبالتالي الابتعاد عن المحيط العربي وتياراته السياسية. لقد امنت التغيرات في السنوات الماضية في محيط لبنان والبيئة العربية عموما، ظروف ولادة ثانية لهذا التيار، وهو يحث الخطى للنمو في مساحة مفتوحة. فقد انهار المشروع القومي الذي شكل عقبة أمام طموحات اليمين اللبناني، ودخل معه في صراع دموي على هوية وعروبة لبنان. واضمحلت التيارات ذات الفكر القومي. خرج الفلسطيني المسلح قبل ذلك، لكنه كان عامل من عوامل تعديل صيغة التوازن في الدولة، بين المسلمين الذين وجدوا في القوة الفلسطينية سندا لهم لتعديل الميزان في مواجهة المسيحية المارونية المهيمنة على لبنان. وكانت نهاية الحرب الحصول على المناصفة في اتفاق الطائف الشهير. لكن الطائف تم تطبيقه بالحضن السوري والرعاية السورية الكاملة التي لم تعد موجودة اليوم. سوريا خرجت من لبنان وباتت بعد الحرب السورية خارج دائرة التأثير فيه. وبالتزامن مع ذلك حل الانقسام العربي بشكل غير مسبوق في تاريخ العرب الحديث، على اثر ازمات عربية متلاحقة ما ادى الى رحيل مركز القرار العربي من دول أساسية ” مصر، سوريا، العراق ” إلى الخليج. وعندها بات سلم أوليات العرب مختلفا تماما. حيث وضعت دول الخليج أولوية مواجهة خطر إيران، فوق أي ملف عربي آخر. وعموما أغلقت كل دولة عربية بابها على أزماتها الداخلية، وبات التفاعل مع أزمات خارج الحدود ولو في الفضاء العربي ضعيفا. وهذه البيئة العربية هي البيئة المواتية لليمين اللبناني، ليعيد إنتاج نفسه وفق تدرج الخطاب وعبر مؤسسات الدولة، فلم يعد أمامه تناقض فكري جدي مع أيدولوجيته داخل لبنان. وعلى مستوى العالم يتناغم صعود هذا اليمين مع نظيره في الغرب، حيث تشكل عنصرية دونالد ترامب واقرانه في أوربا النموذج الملهم. ربما لدى اليمين الطامح معضلة واحدة وهي قوة حزب الله العسكرية، وهي قوة يحيدها مؤقتا وفق تفاهمات ثنائية. تضمن له أن لا تعيق هذه القوة تعميم خطابه، ولا تواجه اتساع رقعة تأثيره داخل المجتمع والمؤسسات. ولكن هذا التحييد سيكون مؤقتا، ولابد في نهاية المطاف وفي مراحل مقبلة من اختلاف وتناقض. القضية ليست في لاجئين أو نازحين، إنما هو العرض لجوهر تحولات في بنية النظام والمجتمع في لبنان، تعتمد على تغير جذري طرأ على مراكز القوى في لبنان والمحيط والاقليم. تصاعد نفوذ اليمين في لبنان مدعوما بخطاب” اللبناني المتفوق “، واللبناني الفينيقي “، واللبناني أولا وأخيرا “، وهو خطاب بالمناسبة يلقى صدى عند جيل جديد من كل الطوائف والبيئات في لبنان، خاصة مع تراجع الخطاب القومي كما ذكرنا سابقا، وتقلص مساحة تأثير الأحزاب على اختلاف ايديولوجيتها. هذا التصاعد لن يكون فيه استهداف الغريب اللاجئ سوى استهداف مرحلي، وسرعان ما سيتحول نحو كل اخر، وقد يكون هذا الآخر هو اللبناني نفسه من طائفة مختلفة. في نهاية الامر سوف يرحل هذا اللاجئ. السوري الى وطنه، الأمور تسير وفق هذه النتيجة بسرعة. والفلسطينيون يهاجرون فرادى إلى المنافي في أوربا، ولم يبق إلا ربع عدد إجمالي الفلسطينيين في لبنان. فهل بعدها سوف يختفي هذا الخطاب وهذا الكم من الكراهية داخل لبنان ؟. علماء الاجتماع يقولون عكس ذلك تماما من الناحية الاجتماعية، فخطاب الكراهية ضد الآخر يحفر في عمق المجتمع ويتحول إلى ثقافة يمارسها المجتمع كأمر اعتيادي وضد أي أخر يختلف عنه. أما سياسيا سيكون هناك “نحن وآخر ثاني”. وسيكون هذا الآخر هو لبناني عليه أن يكون مواطن درجة ثانية أو مواطن بحقوق أقل. وبالتالي عودة طموحات ومشاريع اليمين اللبناني إلى ما قبل 1975 وربما أسوء من ذلك. فهل سيحتاج لبنان إلى حرب أهلية ثانية، لمواجهة هذه الطموحات وهل سيبحث لبنانيون مغبونون في وطنهم في المستقبل عن قوة مسلحة خارجية كما حصل في 1975 تعيد إليهم حقوقهم الاجتماعية والسياسية. خطاب اليمين المتنامي في لبنان وصفة لحرب الجيل القادم، على الهوية والحقوق والتوازن. فلم ينتج النظام السياسي اللبناني بعد الطائف حالة نظام حكم مستقرة. والتنازع والتقاسم للوطن على أساس حصص الطوائف، وتوازنات معقدة يسعى كل طرف لتغييرها وفق متغيرات محيط الدولة ومعادلات الصراع في الإقليم، كل ذلك أوصل البلاد إلى شلل في القدرة على حل أزمات مزمنة في الحوكمة والاقتصاد والمعضلات الاجتماعية بل حتى في التعامل مع أزمات تفصيلية ويومية، كأزمة النفايات أو الطرقات الخ. قد ينجو لبنان من هذا المستقبل الموحش بقدرة أبنائه على إنتاج نظام حكم وفق قواعد جديدة لا محاصصة فيها بعيدة عن عقد التفوق الطائفي، والأساطير التاريخية حول أحقية أي طائفة أو مذهب في نشوء لبنان، أو لمن قدمته فرنسا بعد رحيلها. وهذا الأمر يحتاج إلى قوة دفع شعبية تنفض عنها ثقافة الزعيم وسيطرة الطائفة، وإلى نخبة رفيعة الثقافة والوعي والتأثير، لا تسلم بالأمر الواقع، وتنطلق من مبدأ المساواة في المواطنة، نحو هدف الدولة الكاملة غير الخاضعة لجزر النفوذ المترامية والمتناحرة ذات المصالح الضيقة. حمى الله لبنان وشعبه من كل مكروه. |
||||||||
|