دراسات

مناهج التعليم السوري تثير غضب إسرائيل

الجمل


صديقي ، و هو موظف رفيع المستوى في مقر الأمم المتحدة في عمان عاصمة الأردن، تلقى مؤخرا رسالة إخبارية من مؤسسة إسرائيلية تسمى “IMPACT-se” ، حمل التقرير “بتواضع ” عنوان : ” إعادة صياغة الكتب المدرسية خلال الحرب الأهلية”..و يتضمن تحليلا لمنهاج التعليم السوري. عمل مثير للاهتمام بلا شك، يدوي و سلبي و لكنه مشوق. و قد أقيم لأماكن كثيرة في الشرق الأوسط ، مثل لبنان حيث بالكاد تلفظ كلمة “إسرائيل”. و كون التقرير مكتوبا في إسرائيل فمن السهل التنبؤ بأنه يناهض سوريه و إيديولوجيتها و موقف الرئيس الأسد الحازم ضد الإمبريالية، غير أن الأمر قد يأتي بنتائج عكسية، فالمقاطع المقتبسة من مناهج التعليم السورية سيكون لها تأثير على خبراء التعليم و على الرأي العام في حال وصلت إلى أيديهم و ألقوا نظرة عليها، و أنا هنا أحاول في هذا المقال تسهيل هذا الأمر،فما يعتبره التقرير فظيعا و بائسا قد يراه الآخرون منطقيا جدا و إيجابيا، و لنقرأ ما اقتبسه تقرير ” IMPACT-se” و هو يقرع أجراس الإنذار : ” وصل صدام حسين إلى السلطة ، و شهد عهده عدة حروب في منطقة الخليج العربي، الأولى كانت مع إيران و سميت حرب الخليج الأولى (1980-1988) و قد حدثت بتحريض من الولايات المتحدة بهدف إضعاف كل من الدولتين” (كتاب التاريخ – الصف الثاني عشر – العام الدراسي 2017-2018) حسنا ، أليس الأمر كذلك؟ و لكن من ناحية فلسفية الموضوع يؤدي إلى ما هو أفضل بكثير ، فتخيل أن هذه المعلومات الذكية تقدم للأطفال السوريين في مدارسهم العامة، بينما في أوروبا و شمال أميركا يغذى الأطفال ب بروبوغندا تيار المستعمرين الجدد .و لا عجب أن الأطفال السوريين أكثر اطلاعا على ما يحدث في العالم، و لا غرابة أن ملايين اللاجئين السوريين مستعدون الآن للعودة لوطنهم ، بعد سوء المعاملة التي تلقوها في الخارج و إدراكهم إلى أي مدى تمكنت البروبوغندا الغربية من غسل أدمغة الشعوب في كل أرجاء العالم. و يتابع تقرير IMPACT-se الاقتباس من مناهج التعليم السوري مع اعتقاد ساذج أن هذه الكلمات المطبوعة سوف ترعب العالم بأسره: “هذه المنافسة و الصراع ازداد سوءا مع تطور النظام الرأسمالي و سيطرة القوى المحتلة الجديدة مثل الولايات المتحدة على السياسات الدولية. و قد استثمرت تفوقها العلمي و التكنولوجي و الاقتصادي و العسكري من أجل توسيع نفوذها و السيطرة على مقدرات كل شعوب العالم، و هذا حدث بالتعاون مع حلفائها بهدف تعزيز حضورها في الساحة الدولية كقوة عظمى وحيدة مسلم بها”…. (التربية القومية -الصف الثامن) . “الولايات المتحدة تسعى للحفاظ على تفوقها عن طريق احتكار التكنولوجيا المتطورة و السيطرة على مصادر الثروة و الطاقة في العالم، و لاسيما النفط، و فرض هيمنتها على المجتمع الدولي”..(التربية القومية -الصف الثامن) هذا الكلام يمكن أن يكتب بسهولة من قبل الاقتصادي التقدمي بيتر كوينيغ أو المحامي الدولي كريستوفر بلاك، أو ، و لما لا ، من قبلي أنا. الناس الذين يعملون على المناهج الدراسية السورية جمعوا بذكاء بين أمرين: أولا حقائق لا تقبل الجدل و ثانيا بساطة أنيقة ، و في الواقع هذه المناهج يجب أن توفر لا لأطفال الشرق الأوسط فحسب، بل أيضا لكل أطفال العالم. انظروا كيف تختصر التاريخ الحديث ببراعة و صدق: “بعد زوال التوازن الدولي و ظهور السيطرة أحادية القطب على العالم، بدأت الولايات المتحدة البحث عن أعذار لتبرر تدخلها في دول أخرى . احتلت أفغانستان عام 2002 تحت ذريعة الحرب ضد الإرهاب من أجل تحقيق أهدافها السياسية و الاقتصادية، و أحد هذه الأهداف كان بناء قاعدة عسكرية متطورة بالقرب من الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة مصدر خطر (روسيا، الصين، الهند، إيران ، كوريا الشمالية ) . و علاوة على ذلك، تملك أفغانستان الكثير من الثروات (مثل الحديد الخام و الغاز) . عام 2003 ، أعلنت الولايات المتحدة (بمساعدة مجموعة دول) الحرب على العراق تحت ذريعة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل و مساعدة الإرهاب. و كان الاحتلال بعد حصار جائر و ضربات جوية فوق المدن و المؤسسات العراقية بدون تفويض من الجمعية العامة للأمم المتحدة و مجلس الأمن”…..(التربية القومية -الصف الثامن) “جعل العالم بشكل واحد و بنية واحدة و نموذج واحد، و هو النموذج الأكثر قوة و المسيطر على العالم اقتصاديا و عسكريا، النموذج الأميركي. هيمنة النظام الرأسمالي حوّل العالم إلى سوق استهلاكي للبضائع و الأفكار الغربية، في الوقت الذي يتم فيه تجريد الأمة من مبادئها و عاداتها و تقاليدها و إلغاء شخصيتها و هويتها ، في البداية الإضعاف و من ثم بالتدريج إزالة أمم و ثقافات”….. (التربية القومية- الصف الثاني عشر) و يفترض تقرير IMPACT-se أن هذا سيفزع قراء عشوائيين ، و يمنح الدليل على مدى شر النظام في دمشق، و لكن العكس هو الصحيح. حول فنجان قهوة سمعت من مثقف عالمي، (غير غربي) يقيم حاليا في الشرق الأوسط ، عبارة أعتقد أنها تلخيص جيد لما يعتقده الكثيرون حول مناهج التعليم السورية إذ قال : “التعليم يعكس رؤية مجتمع ما، لب ما يتوقعه المجتمع من مواطنيه موجود في مناهج التعليم. و قراءتي بعناية لتحليل مناهج التعليم السوري أكدت اعتقادي القوي بمدى عظمة الشعب السوري”. و لنستمع الآن للجانب الآخر ، أولئك المنتقدين للتعليم السوري، و الذين يقتاتون من وراء الانتقادات و إثارة العداء. الإسكوا (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا) ،و مقرها في بيروت، قامت بمبادرة عنوانها “مستقبل سورية لمرحلة بناء السلام” و قد استدعى العمل خبراء سوريين من كل مجالات الحياة.و لكن من هم هؤلاء الخبراء؟ في عام 2018 و خلال اللقاء حول التعليم ، ضمت القائمة الخبراء التاليين: – أستاذين سابقين في جامعة حلب (تربية و حقوق ) – أستاذ سابق من جامعة دمشق. – رئيس منظمة تعليم غير حكومية في لبنان. -أكاديميين و باحثين مقيمين الآن في تركيا و ألمانيا. -مستشارين مستقلين. و من الواضح أنه إذا وجد سوريين في هذا اللقاء فهم “سابقون في مجالهم” ، بمعنى أنهم بعيدين، و خارج ملاك الحكومة و على الأغلب مرتبطين بمنظمات غربية (و على الأغلب منظمات مقرها فرنسا أو ألمانيا). لم تتم دعوة أي شخص من الحكومة الشرعية السورية ، إنه التصرف الغربي النموذجي : “عنهم و بدونهم” . و هؤلاء الأشخاص الذين يخدمون المصالح الغربية يفترض بهم أن يساعدوا على تحديد مكونات التعليم التي تعتبر حيوية من أجل المصالحة و التماسك الاجتماعي في سورية ما بعد الحرب. و كما هو متوقع، و عوضا عن تعزيز التماسك ، كانت الخطابات مفعمة بالكره و المرارة و الهجوم و العداء لسورية و التأييد للغرب. و استخدم “الخبراء” مصطلحات مثل :” هيمنة النظام السوري” ، “البعث السوري معني فقط بالإيديولوجية و لم يمنح السوريين هوية ” (و كانوا في الواقع يطالبون بأن تكون الأديان هي الهوية ، عوضا عن سورية الحالية العلمانية) “نحن بحاجة للحديث عن حقيقة ما حدث في عام 2011 و ما أدى إلى الحرب عام 2011 . و من دون القيام بذلك لا شيء له قيمة ” ( و لكن حقيقة ما حدث عام 2011 في أذهانهم لا علاقة لها إطلاقا بحقيقة أن الغرب شجع على تمرد ضد الحكومة و أدخل الجهاديين و أثار حربا مدنية موجعة هدفها إسقاط دولة اجتماعية). و يبدو أن رأيهم الرئيسي هو : “الحرب منحت القوة لثقافة الكره”، و هذا صحيح و لكن ليس بسبب الدولة السورية و لكن بسبب أشخاص كهؤلاء “الخبراء”. ما الذي يريدوه حقا ؟ الدين عوضا عن العلمانية، الرأسمالية عوضا عن الاشتراكية، و بالطبع ، المفهوم الغربي للديمقراطية عوضا عن الوطنية و الرؤية العربية لاستقلال الدولة. و بغض النظر عما يقال، نظام التعليم السوري، و المتضمن المناهج، يبدو متفوقا بشكل كبير على أنظمة الدول المجاورة ، و ربما لهذا السبب يتعرض للتدقيق و الهجوم. و في نهاية المطاف، ألم يكن الهدف الأساسي للغرب ، في 2011 و ما بعد، تدمير دولة أخرى اشتراكية و ذات علاقات دولية تخدم شعبها؟ و ماذا عن دولة إسرئيل؟ ما الذي تعترض عليه IMPACT-se بشكل رئيسي؟ ما أكثر ما يزعجها في مناهج التعليم السوري؟ربما نعرف الجواب في كلماتها و تحليها التالي: “مناهج التعليم السوري تحدد الهوية الوطنية السورية على أساس النضال المستمر من أجل الوصول لأمة عربية تضم كل الدول العربية، و تشكيل دولة واحدة هي الوطن العربي، و الكتب المدرسية تعتبر الحدود التي تقسم الدول العربية زائفة فرضها الاستعمار الغربي” بالنسبة لمعظمنا هذا في الواقع ليس أمرا سيئا ، أليس كذلك؟ أو ربما يكون ما يزعجها هو التالي: “الحدود الحالية سياسية ، رسمت عبر سياسة القوى الاستعمارية التي سيطرت على المنطقة ، و خاصة فرنسا و بريطانيا. و هي لا تتداخل مع الحدود الطبيعية التي تفصل الوطن العربي عن الدول المجاورة. إذن، حدثت تغييرات هامة في هذه الحدود لصالح تلك الدول و للسيطرة على الأرض العربية “…(جغرافية الوطن العربي و العالم – الصف الثاني عشر) و الشيء المؤثر بشكل كبير هو كيف تحدثت المناهج السورية عن الحقبة السوفيتية لحليفها القريب روسيا: “يجب أن نتعرف على واقع روسيا قبل الثورة الشيوعية ، و الأسباب التي أدت إلى نهوضها السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و الفكري منذ الحرب العالمية الأولى و حتى حل الإتحاد السوفييتي و نشوء روسيا الاتحادية عام 1991″…. (التاريخ -الصف الثامن) “اندلعت الثورة الاشتراكية في روسيا من أجل مواجهة النظام الاستبدادي، و أعلن تأسيس أول دولة اشتراكية عام 1917 ، و الثورة كانت قائمة على حكم العمال و الفلاحين ، و كان لها تأثير عالمي مع دعمها لحركات التحرر الوطني ” …(تاريخ العالم الحديث و المعاصر – الصف الحادي عشر) “وصل غورباتشوف لقيادة الدولة و الحزب عام 1988 ، و كان يتوق لتنفيذ خطة إعادة بناء اقتصادي و اجتماعي و إيديولوجي . و لكن الدول الرأسمالية تآمرت ضد مصير الإتحاد السوفييتي و استغلت الفساد الإداري و ظروف القوميات المتعددة ، و قادت إلى حله عام 1991 و تأسيس روسيا الاتحادية مكانه” (التاريخ – الصف الثامن) في الحقيقة ، لو أني أستطيع، و لو سمح لي ، لقمت بنشر كتب المنهاج السوري ، أو على الأقل تلك المتعلقة بالتاريخ و السياسة كي يقرأها كل إنسان خارج سوريه.و ما تراه IMPACT-se” الإسرائيلية خطرا أو سلبيا ، سيراه كل العالم و خاصة في المنطقة العربية كأمر حقيقي و متفائل يستحق القتال دفاعا عنه. هل الخبراء في IMPACT-se ساذجون لهذا الحد بحيث لا يدركون ذلك؟ أو أن شيئا آخر يحدث؟ ربما لن نجد الجواب. و مهما كان الأمر: الشكر لتذكيرنا بمدى عظمة مناهج التعليم السوري ، إنها تظهر بوضوح كم هي عظيمة سورية! *فيلسوف و روائي و صانع أفلام و صحفي أميركي ولد عام 1962 في الإتحاد السوفييتي ، و عاش في الولايات المتحدة و تشيلي و البيرو و المكسيك و فيتنام و اندونيسيا و ساموا.

Copyrights © Znobia.com

المصدر:   http://znobia.com/?page=show_det&category_id=12&id=18257