آراء ومقالات

نيرون وديوجين

الاستاذ غسان أديب المعلم -ميدلاين نيوز


لا حاجة لنا للعودة إلى مذاكرات التاريخ كثيراً، فالغالبيّة قرأت وتعرّفت وحفظت عن ظهر قلب معظم قصصه وأحداثه، ومواقع التواصل الإجتماعي تضجّ بالعبر ممّا سلف، وتفيض بالمقارنات بين أحداث وحوادث دولةٍ وأخرى، وكيفية انهيار الممالك والامبراطوريات والجمهوريات على مختلف أشكالها من حيث القوة والامتداد والحقبة الزمنية التي تواجدت بها، إلّا أن استعراضاً مفصّلاً يفضي لنتيجةٍ واحدة مفادها حجر الارتكاز والانهيار بآن وهو “المواطنة”. فكيف لشخصٍ ما أن يدافع عن شيء لا يشعر بأحقيّته، أو كيف يستطيع العيش والتكيّف مع الأغراب؟ وإلى أيّ درجةٍ سيصل حتى نفاذ صبره من انعدام المساواة الاجتماعية وموت العدالة وغياب القانون؟. كلّ جوابٍ لهذه الأسئلة لا يمكن ردّه للمؤامرات الخارجيّة التي تفرضها الدول القويّة على بعضها البعض فحسب، أو حتى على الدول الصغيرة من حيث فوارق المساحة والتعداد السكّاني وعتاد السلاح ووافر الثروات! فكلّ الأمراض والدسائس والخطط ترتكز على نقاط الضعف للدخول إليها، و من ثمّ اللعب على حبالها، وقطف ثمار الأفكار الشيطانيّة، ولو بعد حين! وما استعراض رؤوس الأقلام في التاريخ للمقارنة، بل للتأكيد بأنّنا لم نشابه أو نقترب من حالٍ كحالنا! فلا “بيتيفور وكيك” ماري أنطوانيت يُلهب الحماس ويؤسّس لردّة فعل، رغم أنّ ربطة الخبز التي تُعتبر من بديهيّات الحقوق معدومة، وتكاد تكون محضر جلسات المسؤولين بشكلٍ أسبوعيّ، يتفنّن بها البُلهاء الحمقى بطريقة توزيعها، ولا استغاثات “وامعتصماه” ستحرّك ساكناً في الوضع القائم. فالجميع يتوارى بالاستغاثات والمناشدات وهو يعلم علم اليقين أنّ كلّ أمرٍ بقَدَر، وأن الحكومات المُتعاقبة الفاشلة ليست سوى واجهة ودُمى ناطقة، وأن “المعتصم” لو كان على علمٍ فهي مصيبة، ولو كان لايعلم فهي مصيبةٌ أكبر. ولا كلّ الخطابات والشعارات الرنّانة بالصمود والتصدّي التي تتقاذفها شفاه أشباه رجال السلطات على مسامع هذا الشعب تؤتي ثمارها، فالشعب يعلم علم اليقين بكذبهم ونفاقهم، وأنّه لن يُلقي السمع للثرثرة والرياء. لكنّ ثمّة أمرٌ “خطير” واحدٌ قد يُسمن أو يغني عن جوع في اعتقاد من ينتظر الحلول، وهو تعجّب أبا ذرٍّ الغُفاري من عدم “إشهار سيف الجياع” لقطاف الرؤوس التي أينعها وأتخمها الفساد. فالبلاد دخلت مجاعةً حقيقيّة من حيث اعتماد الأسر على بعض الأساسيّات التي تكاد معدودةً على الأصابع، وبذات الوقت دخلت البلاد في الظلام شبه الكامل مع الأجواء الباردة التي تعصف بالأجساد.. والأنكى، أنّ السلطات ذاتها تستقوي بقوانينها التي لم تتشابه إلّا مع مقاطعة سكسونيا في فرض التوقّف القسري لمعامل الإنتاج في حال أكملت عجلة دورانها عبر الاستعانة بوقود الأسواق السوداء التي خلقتها السلطات ذاتها. وفي الوقت نفسه، وفي حين أنّ هذه السلطات تٌطلق العنان للتغنّي بنصف الكأس المملوء، وأنّ الإرادة والتحدّي تفعل المُستحيل، وأن مواسم الخير قادمةُ لا محالة، تقوم بفرض أسعار جديدة على أهمّ عناصر الإنتاج الزراعيّ، وهو السماد الذي لا يستطيع المُزارع تحمّل سعره الجديد ولا يطيق جلبه. فكيف الحال مع شحّ المياه وانعدام الطاقة؟. وأيضاً وأيضاً، والحديث لا زال عن السلطات، والتي تتبجّح بأنّ الشلل الحاصل نتيجة انعدام الوقود سببه ظروف الحلفاء المُنشغلين كلّ بهمومه الداخليّة وحروبه، برغم أنّ الكثيرين يعلمون بسعر الوقود بالدول المجاورة وأن طريق الحصول عليه سهلٌ جدّاً، بل أن هناك محافظات بأكملها وتحت سيطرة هذه السلطات يتراوح ثمن البرميل بينها وبين محافظات مجاورة بما يقارب ثلاثة وأربعة أضعاف السعر. فهل نحن حقًاً في دولة مؤسسات!؟. أم أننا نرزح تحت رحمة أقذر عصابةٍ عرفها التاريخ؟ والجواب على هذين السؤالين لمن هم مثلي من الطبقة المسحوقة الفقيرة، سيكون الاختيار للجواب الثاني. فالغالبيّة على قدرٍ واعٍ من التماس الحقيقة، وهذا الوعي الجمعي سيكون بيضة القبّان وهو المُستدرك حُكماً لخطورة نظرية أبا ذرّ الغفاري، فالفرق كبير بين ثورة الجياع وثورة الوعي، والغالبيّة لم تصمت خوفاً من سياط الجلّادين كسببٍ رئيس رغم أنّه موجود وملموس، بل خوفها الأكبر على وطنها من الغرق الأكبر والخراب الأخير.. ولأجل ذلك تكون حرب الكلمات والأفكار المطروحة لإنقاذ مايُمكن إنقاذه وتفادي المحرقة التي يقودنا إليها عميان البصر والبصيرة، فتكون هذه الأفكار كمصباح ديوجين، مقابلاً لأعواد الثقاب التي تُريد طغمة نيرون إشعالها. الفكرة بسيطة ومعروفة، والتاريخ ولو كتبه الأقوياء، إلّا أنّ الحقيقة لا يمكن إغفالها بأنّ المواطنة تكفل البقاء وفقدانها يعني العدم، وهي حجر الزاوية للبقاء أو الفناء، ونحن وللأسف على أعتاب الفناء. فهل سينتصر النور على النار؟

Copyrights © Znobia.com

المصدر:   http://znobia.com/?page=show_det&category_id=26&id=32947