وجهات نظر

قطبة مخفية تجعل من الحرب خيار لا بد منه.


بداية، هناك “خلاصات” تاريخية يجب أخذها بالحسبان دائماً، ومنها: أن من طبيعة هذه المنطقة تشابك ملفاتها وجبهاتها ومصائر شعوبها، سواء أحببنا ذلك أم لم نحبه. وأن هذه المنطقة “قوس الأزمات حسب بريجينسكي” أحد أبرز ميادين الصراع بين القوى الدولية، والممر الإلزامي لإعلان بزوغ قوى وأفول أخرى. وأنّ على هذه الأرض تظهر العلامات الأولى لتبدل موازين القوى الدولية، وغالباً ما تحسم معركة ما فوق ترابها الوجهة المستقبلية لأقطاب وشكل النظام الدولي الجديد. الفتور وأحياناً الرفض الأوروبي لعدد من المبادرات “التحالفية” لإدارة ترامب، وآخرها التحالف البحري، لا يمكن أن نعزوها فقط إلى خوف أوروبا -المترهلة سياسياً، اقتصادياً، اجتماعيّاً، عسكريّاً- من الإشتراك بمواجهة عسكرية في المنطقة أخطر بكثير من تلك التي خاضوها في العام 1991 لتحرير الكويت، واحتمال تورط أحد أعضاء هذا التحالف البحري بحادث عرضي مع ايران –وقد يفتعله أحدهم لتوريط أوروبا مثل كيمائي الغوطة- قد يتطور إلى مواجهة بحرية وربما جوية وبرية شاملة لا تنتهي على الأرجح إلا بمواجهة نووية مدمرة. أو توجسها من اكتفاء واشنطن بدور “القيادة من الخلف” في هذا التحالف، خصوصاً وأن ادارة ترامب اعلنت بأنها مكتفية ذاتياً من النفط وأن نفط اوروبا والصين واليابان وكوريا… هو مَن يمر عبر هذا المضيق. هذه الأسباب وغيرها حاضرة حتماً في ذهن الحكومات التي آثرت عدم الذهاب مع واشنطن إلى سياسة “الحدّ الأقصى من الضغط”، ولكن يمكن أن نستلهم منها افتراضات ذات مصداقية عالية وغاية في الحساسية، منها: 1-تعتمد بنية شبكة العلاقات الدولية لدولة ما على موقعها في موازين القوى الدولية، وعندما “تفشل” دولة كأمريكا في اقامة عدد من التحالفات دعت اليها خلال عام واحد مثل، تحالف دولي شمال-شرق الفرات في سورية، تحالف وارسو، تحالف البحرين، تحالف القوة البحرية بهرمز… فان ذلك يؤشر إلى عمق التراجع الواقع فعلاً والمنتظر مستقبلاً في موقعها ضمن موازين القوى، وذلك على الأقل، بالاستناد إلى تقييم سلبي ومتصاعد في سلبيته من قبل حلفاؤها لقدرتها على القيادة، ولحجم التآكل -حاليّاً ومستقبليّاً- الذي لحق بمفاصل نظام دولي كانت هي وهم سادته لعقود… وهذه هي خلفية تصريح الرئيس الفرنسي المدوي قبل أيام في مؤتمر للسفراء، تناول السياسة الخارجية لبلاده:”نحن نعيش حقبة تمثّل انتهاء الهيمنة الغربية على العالم… يجب إعادة التفكير بالنظام الدولي القائم”. وأضاف:”هناك قوى جديدة في العالم تظهر وتتقدم، ولقد أسأنا تقدير قدراتها مثل الصين والاستراتيجية الروسية التي يقودها بوتين بنجاح”. 2-صحيح بأن “رامسفيلد” تلذذ بإهانة اوروبا عندما وصفها بـ”القارة العجوز”، ولم تكتفي ادارة ترامب بان تكون الأكثر اهانة لأوروبا ومجمل “حلفاء” واشنطن في العالم على الاطلاق، وإنما مارست عليهم ضغوطاً اقتصادية وتجارية ومالية واسعة ومذلة… أوروبا هذه، تكتشف كل يوم، لكي تبقى، يجب أن توائم سياساتها مع مصالحها الوطنية والدولية بعيداً عن التبعية لواشنطن، وضمن محيطها الاقرب مع روسيا وآسيا وافريقيا. ألم يحمل رفض المانيا ومن خلفها اوروبا املاءات واشنطن بوقف استيراد الغاز الروسي، وانضمام معظم الدول الاوروبية الوازنة إلى بنك تنمية البنى التحتية الصيني، وتجاهل الاوروبيون تصريحات ترامب بأن “العُملة الصينية ذاهبة إلى الجحيم” -وكأنه لا يعلم بأن اصحاب هذه العملة هم المستثمر الأكبر في سندات خزينته- ما يدلّ على هذا الاستنتاج؟. 3-لكل حقبة زمنيّة طابعها الاقتصادي المميز لناحية الطاقة التي تستخدمها، والإضافة النوعية الأهم التي تقدمها للبشريّة، فمثلاً: كان الفحم هو مصدر الطاقة الابرز في حقبة سابقة، والمحرك البخاري مَثّل الاضافة الابرز لحقبة الفحم… لينتج عنه اكتشافات واختراعات كبرى، ما سمح للدول القليلة التي امتلكت ناصية هذا المنجز الدخول في عصر جديد من التفوق الاقتصادي والسياسي والعسكري والثقافي… على حساب بقيّت الدول الأخرى التي تستخدم طاقة الرياح أو الماء… مثلاً. يعيش عالمنا اليوم مشهد مشابه للمثال السابق، حيث تسيّد العالم لقرن من الزمن تقريباً، تحالف اقتصادي-سياسي-عسكري على ضفتي الأطلسي تقوده واشنطن، ونقطة وصله الجيوسياسية بريطانيا، وطاقته الأساسية النفط، وإضافته النوعية الثورة التكنولوجية، ومجال استعراض قوته الأبرز تتركز في الماء، حيث حاملات الطائرات والبوارج والفرقاطات… تذكروا امتلاك واشنطن لـ12 حاملة طائرات يرافقها مئات السفن المساندة، بينما تملك موسكو حاملة طائرات واحدة والصين حاملتين او ثلاثة فقط… ولكن هذا التحالف بدأ بالتراجع لصالح تحالف جديد، يمتد من موسكو إلى بكين وحتى ضفاف المتوسط، طاقته الأساسية الغاز، وإضافته النوعية الكبرى تكنولوجيا الجيل الخامس، ومجاله الحيوي اليابسة الممتدة من روسيا وشمال آسيا وغربها وأوروبا وصولاً لأفريقيا، ومجال تفوقه العسكري القدرات البريّة والجو-فضائية، ونقطة وصله قوس أزمات بريجينسكي الممتد من أفغانستان إلى ايران وحتى سورية… وهنا لا بد من الإشارة إلى مشهدين مهمين: الأول: سيكون مضيق هرمز، وخصوصاً مع تشغيل بكين لميناء “جيدور” في باكستان، نقطة الوصل البحرية الأبرز، وستكون دمشق وبغداد الممر البري الحصري بين قلب التحالف الجديد والجزيرة العربية حيث طاقة الأمس، ومنها إلى المشرق العربي وأفريقيا… وهذا يفسر الكثير من رغبة “تحالف النفط” السيطرة على إيران و”هرمز” أو تعطيل هذا المضيق كخيار أخير، والإصرار الصهيو-أمريكي على الاحتفاظ بالقواعد الأمريكية-الغربية في العراق وسورية، وخصوصاً في “عين الأسد” والتنف وصحراء الأنبار وشمال-شرق الفرات. الثاني: تراجع كبير في قيمة الكثير من الممرات البحريّة لصالح الإطلالات البحرية، فمثلاً: ستكون أهمية الشواطئ السورية أكبر بكثير من قناة السويس عندما: تصبح سورية محطة كبرى من محطات طريق الحرير، ومنارة مشعة على فضاء البحار الخمسة، وتبدأ بتصدير ثرواتها الغازية الهائلة إلى جانب كميات كبيرة من نفط وغاز كلّ من العراق وإيران –وربما آخرون- عبر سواحلها للمستهلكين ومن ضمنهم أوروبا، سواء عبر الأنابيب أو التحميل المباشر، إذ سيتخلص المستهلكون من عبء مصاريف النقل لألآف الكيلومترات، ورسوم عبور قناة السويس، ومخاطر القرصنة في القرن الافريقي… . 4-يمكن لأي دولة أن تأخذ موقعاً رياديّاً في الاقليم عبر طريقين لا ثالث لهما: أ-القوة الناعمة: ومن مكونات هذه القوة: سطوة المرجعية الدينية، مثل سيطرة آل سعود على مكة والمدينة. سيادة النموذج الثقافي، مثل مصر ابان حقبة عبد الناصر-الأزهر-أم كلثوم… . المكانة والإنجازات الإقتصادية، دبي نموذجاً. شيوع نمط العلاقات اجتماعية والعادات والتقاليد… انتشار عادات أهل جزيرة العرب في الأكل والشرب واللباس… خلال حقبة النفط. وفي ظل هيمنة أعداء الامة -أعداء الداخل والخارج- على وسائل انتاج واعادة انتاج الدين والثقافة والبنى والمواقف السياسية وأشكال العلاقات الاجتماعية و على ثروات هائلة وجلّ مصادرها… يصبح من المتعذر خوض معركة معهم على هذا الصعيد فقط والإنتصار فيها دون المزاوجة مع المكون الثاني، وهو الاساس في معركتنا، وخصوصاً في هذه المرحلة التاريخية. ب-قوة الانجاز وسطوة النموذج: أي أن تحصد أكبر قدر من الإنجازات والانتصارات الفعلية والميدانية لتجعل منها النموذج الاكثر واقعية وصدقية وسطوعا… وهكذا ستفرغ جعبة العدو من أمضى اسلحته: فيصير تباهيه بمظاهر القوة نموذجاً ممسوخاً للدونكيشوتيّة، فمثلاً: هبوط ترامب بطائرته في أحد القواعد الأمريكية سراً خوفاً من فعل مقاوم، وفشل الحل العسكري الصهيوني في لبنان والسعودي في اليمن بشكل فضائحي تماماً… وتعرية ضخ وسائل دعايته بكل صنوفها لتظهر محض كذب وافتراء وأداة من أدوات تفتيت وتمزيق للأمة، مثل، الجزيرة والعربية وشيوخ الفتنة الذين باتوا في عداد الأموات تقريباً… واظهار حقيقة مواقفه السياسيّة والإقتصاديّة… كتعبير عن تبعية ذليلة وعمالة رخيصة لأعداء الأمة… وليس أوضح من واقعة مئات مليارات الدولارات التي دفعها بني سعود لأمريكا صاغرين مثال حيّ وصارخ على ذلك. رويداً رويداً، ستصبح انتصارات وانجازات قوى المقاومة والتحرر الوطني والقومي، مركز الفيض والإشعاع بمفردات القوة الناعمة، ويتحقق التكامل المنطقي بين قوة الانجاز والقوة الناعمة، وهذا ما يؤسس لظهور النموذج القوي أو قوة النموذج التي ستسقط بناء العدو وبنيانه وأذنابه… وسترتقي بمشروع المقاومة من مشروع محور إلى مشروع أمة، ومن قيود بلفور وسايكس-بيكو إلى فضاء الإنسانية وكسر القيود وحرية الإرادة… هذه القطبة المخفية بعض من أهم ما يرعبهم، ويدفعهم للمضي لآخر الطريق في الحرب على سورية وحلفائها في محور المقاومة مهما حاولوا التمويه والمراوغة.

Copyrights © Znobia.com

المصدر:   http://znobia.com/?page=show_det&category_id=13&id=22878